في البداية دعونا نفرق بين البيانات والمعلومات والمعرفة وأدعياء المعرفة.
البيانات هي مصادر من الحقائق والمعارف غير منظمة وغالبًا لا تكون لها قيمة معرفية إلا بعد أن يتم تحليلها ومعالجتها وتحويلها إلى بيانات مرتبة قابلة للفهم. ثم أن تراكم هذه البيانات في نوع محدد من العلوم والفنون هو الشكل الذي من خلاله تُبنى المعرفة.
وفق تعريفي البسيط أعتقد بأنه أصبح لديك تصوّر واضح عن الفرق بين البيانات والمعلومات والمعرفة، وإذا أردتها في تعريف جامع سنقول:”عند معالجة البيانات وتحليلها سنحصل على المعلومات المفيدة، التي تتراكم في موضوع معين لتشكل المعرفة”
كمثال:
تحفـظ أسماء عواصم كل دول العالم – أنت لديك بيانات
تعرف أسماء العواصم، وعدد السكان، ومعدل الدخل في كل العواصم – لديك معلومات
تعرف كيف تُبنى العواصم وتتطور وتنمو، وكيف تنهض وكيف تنهار – لديك معرفة
الآن اسأل نفسك هذا السؤال: ماذا تملك في هذه الحياة بيانات أو معلومات أم معرفة؟ من أنت؟
ولأن البيانات والمعلومات أصبح يقوم بها الكمبيوتر نيابةً عنا، وغالبًا لسنا في حاجة إلى ملء أدمغتنا ببيانات ومعلومات، لأننا كبشر اخترعنا جهاز الكمبيوتر حتى يقوم بهذه المهمة. فإني أعتقد أن المعرفة هي المقياس الحقيقي للعقل البشري.
وهنا يبرز السؤال الأهم ما حجم المعرفة التي لديك، ثم كيف تشكلت معرفتك؟
السؤال مفتوح للجميع أيًآ كان عمرك، يجب أن تسأل نفسك هذا السؤال وتعيده مرارًا وتكرارًا. ما حجم المعرفة التي لديك؟
لنطرح السؤال بشكل آخر؛ ماذا لو كان عملك يتطلب تحليل قدرات البشر بناءً على قيمتهم وفائدتهم المعرفية، لأسباب تتعلق إما لأنك سوف توظفه، أو تشاركة، أو تستشيره، أو تشتري بضاعته، أو تشاركه الحياة.!
كمثال ماذا لو قالت لك خطيبتك أنها خبيرة في إعداد المكرونة بالشاميل، وأتضح لك لاحقًا أنها تشتريها من الأسر المنتجة. أو ماذا لو كان شريكك التقني في شركتك الناشئة لا يتقن أي لغة برمجة وكان يعتمد على فريلانسر هندي ساكن في غرفة في سطوح بنغالور. هذه أمثلة بسيطة تُبين أنه من السهل خداعك.
دعونا من الباشميل وبنغالور؛ اليوم أصبح من العسير جدًا أن تُميز هل هذا لديه معلومات، أم مجرد بيانات، أم خبير وضليع في الفن الذي يتحدث عنه. لذلك السؤال مهم والإجابة عليه عسيرة.
على الأرجح أنت لديك صديق أو تعرف أحد ضمن دائرة معارفك، يُقال عنه “فلان مثقف” أو فلان صاحب علم. وغالبًا إذا دققت في حجم المعرفة التي لديه، ستجدها مجرد رؤوس أقلام من عدة معارف مختلفة. (بيانات غير مرتبة أو معلومات خارج سياقها العلمي والمعرفي)
كمثال ستجده يعرف حجم الدين في الاقتصاد الأمريكي، والضريبة التي تفرض على المصانع الصينية، ومعدل الأجور في مصانع بنجلاديش، وكم تبيض السلاحف في شاطئ ساوث سيستا فلوريدا، وكم علبة تونة يتم تصديرها من إيطاليا، وأسماء كل شخصيات رواية الهوبيت، وشهداء غزوة بدر، وطول ذيل الديناصورات.
لكن إذا أردت تناقشه في أي معلومة مما سبق، لن تخرج بشيء. أو بمعنى ستجد لديه (معلومات)، ربما يصل في بعض الحالات لدرجة مستوى (بيانات)، ويحاول سرد بعض القصص. لكنه غالبًا لن يصل مستوى (معرفة).
أدعياء المعرفة يملكون كم هائل جدًا من البيانات قد يدهشك، ويشدك عند سماعه. نعم سوف تسمع جعجعةً لكنك لن ترى طحنًا للبيانات وتحويلها لمعرفة حقيقية.
هل تعليمنا يخلق أدعياء معرفة أم باحثين ومفكرين لديهم الشغف في البحث خلف الأسئلة؟
لا أعلم، لكن خذ نظرة سريعة على الوصف التعريفي “البايو” في تويتر. ستجد ألقاب مثل، خبير،، مطوّر أعمال، مستشار لعدد من الشركات، متحدث، أقوى رجل في العالم، المرأة الحديدية، الطفل المعجزة، باذنجان مخلل.
من السهل أن يتم خداعك؛ سواءً كنت مدير توظيف تبحث عن المواهب أو حتى باحث عن عمل، أو مستثمر تبحث عن فرصة استثمارية، أو حائر وترغب في استشارة يمكن أن تغيّر مسار حياتك العملية أو العلمية أو الأسرية، أو مجرد مستهلك تبحث عن منتج.
صحيح أن الدرجة العلمية هي المحدد الرئيس لقياس معرفة أي شخص، لكن حتى في المجال الأكاديمي هناك قضايا لا تنتهي من الشهادات المزورة، والأوراق العلمية المسروقة في كل أنحاء العالم. من السهل خداعك.
نعم من السهل جدًا خداعك؛ لم يتوقف المحتالون النيجيريون عن العبث. منذ أيام المجموعات البريدية في بداية الألفية، وحتى اليوم لا زالت رسائلهم تصل للملايين حول العالم. لديهم نموذج عمل بسيط جدًا؛”أنا أعمل ضمن معدل استجابة للرسائل البريدية مقياسه هو 000000,1%، وعلى ضوء هذا المقياس المتدني جدًا يمكنني أن أرسل 100.000 رسالة في العام. إذا نجحت رسالة واحدة فقط سوف أجني الآلاف من الدولارات وسأعيش سعيدًا”
وهم لا زالوا سعداء ولا زالت رسائلهم تصل. معنى ذلك أن هناك من يصدقهم. عقول البشر ليست واحدة 🙂
قرأت كتاب Bad Blood: Secrets and Lies in a Silicon Valley Startup، الذي حكى قصة شركة ثيرانوس، وتعجبت جدًا من الأسماء التي تم خداعها. مثل ستيف جوبز، باراك أوباما وغيرهم الكثير من المستثمرين في السيليكون فالي. استطاعت إليزابيث هولمز بشخصيتها العجيبة. أن تخدع الجميع بدايةً من المستثمرين والمشرعين الحكوميين مرورًا بالمستهلكين. قبل أن تتكشف قصتها من قبل الإعلام. قدمت نفسها كخبيرة وصاحبة معرفة رغم أنها لا تملك أي معرفة عن المنتج الثوري الذي تسوّق له. ومع ذلك جمعت مليارات من الدولارات.
فكرتي من المقال؛ أن أقول لك و لكِ؛ عليك أن تعتكف من أجل مهمتك في الحياة، وتسأل نفسك سؤال مهم، ما هو حجم المعرفة التي لديك. أو ما هو الشيء الوحيد الذي تتقنه بشكل رائع.
المقال كتبته لنفسي أولًا حتى أعود للبحث عن المعرفة الحقيقية التي أملكها في الحياة، ثم محاولة بناء معرفتي.
أيضا حتى أحاول اتقاء أدعياء المعرفة، واستبدال أصحاب البيانات بورقة إكسل، و استعيض عن أصحاب المعلومات بأي تطبيق من تطبيقات تحليل البيانات، ثم أعقد أهم صفقاتي في الحياة، و أستثمر وقتي، مع أصحاب المعرفة الحقيقية.
مهلًا؛ ليس مطلوب منك تصنيف البشر إلى (صاحب بيانات، وصاحب معلومات، وصاحب معرفة، وحكيم ..إلخ) هذه ليست مهمتك في الحياة. عليك أن فقط أن تضع درعًا وسياجًا حصينًا يدفع عنك الأغبياء ويجعلك في مقربة من الأذكياء. ثم تركز في بناء معرفتك الحقيقية.
خلال الشهر الماضي كان الكتاب الشهري الذي تم نقاشه في “نادي الكتاب” في الشركة. هو كتاب Surrounded by Idiots. “محاط بالحمقى” من ترشيحي أطال الله بقائي وحفظني وعافاني.
ولأن الكتاب يناقش فكرة تقسيم شخصيات البشر إلى أربعة ألوان، حتى يمكنك التعامل معهم. كان جزء كبير من الزملاء يميل للرأي الذي يقول أن تقسيم البشر و وضعهم ضمن تصنيفات محددة هو أمر خاطئ، لأن لكل شخصية سمات فريدة تميزها عن الشخصيات الأخرى. لذلك من الصعب إطلاق حكم جامع على شخصيات البشر. وكان هذا هو محور خلافنا الجميل حول أفكار الكتاب.
وأنا هنا لا أعطي أحكام، لكني أبني جسور ترفعني عن مستقنع البيانات والمعلومات في الشبكات الاجتماعية إلى سحابة المعرفة الموجودة في الكتب.
ويخبرنا الشافعي بأهمية التركيز والابتعاد عن المشتتات، في هذه الأبيات الجميلة
لا يـدرك الحكمـة من عمره … يكدح في مصلحة الأهـل
ولا ينال العلم إلا فتـى … خال من الأفكار والشغل
لو أن لقمان الحكيم الذي … سارت به الركبان بالفضل
بُلـي بفقر وعـيـال لمـا … فرق بين التبن والبقل
الآن خذ نفس عميق؛ واسأل نفسك. ما هو حجم المعرفة التي لديّ؟
النقطة المهمة لي دائماً هي كم عدد انواع المعرفة الي ممكن امتلكها خصوصاً في مرحلة النضج والعمل وتكوين الاسرة لان هذا اكثر وقت راح استفاد من المعرفة الي امتلكها. شخصياً لاحظت اني حتى امتلك معرفة في مجال ما (وليس شرط ان يكون ضمن محور مجال عملي) انه لا بد ان يكون لي حاجة لهذه المعرفة.
مثلا عانيت كثيراً من حب الشباب في المراهقة واستمر معي حتى بعد دخولي العشرينيات. جربت كل شيء قد يخطر على البال ورحت لمجموعة من الدكاترة ودائماً كانت النتيجة جيدة باحسن الاحوال لكن مفعولها مؤقت يختفي بعد شهرين ثلاثة. وما استطعت التخلص من هذه المشكلة والسيطرة عليها إلا بعد ان قررت ان اتعلم وابحر في علوم الجلد والهرمونات وحب الشباب والمكونات المستخدمة في مستحضرات علاج حب الشباب والنسبة المطلوبة في كل مادة حتى تكون فعالة، قصة طويلة اخذت مني سنة من القراءة اليومية، لكن النتيجة خلال سنتين من الجهد المستمر سنة تعلم وتجارب وسنة تطبيق احترافي ممكن نقول 😀 وطبعاً مازلت محافظ على روتيني الغذائي وروتين العناية بالبشرة للسيطرة على الموقع.
لو لم يكن لي حاجة لكان من المستحيل ان افكر من الاساس التعمق في موضوع مثل هذا. ولهذا اغلبنا يمتلك بيانات ومعلومات كثيرة في مجالات عدة ولكن معرفة محددة في مواضيع معينة فقط، لكل قاعدة شواذ لكن هذا هو الغالب على العامة.
النقطة الثانية المهمة ولاحظتها على نفسي اولاً، ان المعرفة في مجال ما توقفت عن التعامل به ممكن تفقدها مع الوقت. ابسط مثال هنا نذكر الرياضيات والطريف في الامر ان طلاب كلية الهندسة لديهم معرفة ولياقة في الرياضيات اكثر من المهندسين المتخرجين والي اساساً يعملون من سنين. كون ان طالب كلية الهندسة مجبور يتعلم عدة مواضيع في الرياضيات ولازم يحافظ على معرفته من خلال الممارسة باستمرار لان راح يتم اختباره كل فترة وفترة الى ان يتخرج، اما المهندس المتخرج فهو يحتاج عدد محدود من المعادلات يزيد ويعيد فيها وفي بعض المشاريع اذا احتاج لشيء ممكن يكون ناسيه او مايعرفه اصلا فيتعلمه من جديد.
شخصياً حتى احاول اسيطر على المشكلة الثانية واني اكتسب معرفة اكثر بجهد اقل واحافظ عليها لوقت اطول بدأت استخدم واطبق مفهوم الـ Second brain من خلال عمل ملاحظات شخصية اشبه بالويكيبيديا فيها اكتب وادون خلاصات ما اتعلم باسلوبي وكلاماتي الشخصية. حتى في حال نسيت شي معين اقدر ارجعله بضغطة زر واجد الملخص انا كتبته لنفسي فاستذكر الموضوع بالكامل خلال ١٠ دقائق بالكثير. قبل تطبيق هذه العملية كنت اذا نسيت شيء معين فراح احتاج اعيد عملية البحث الاولى الي سويتها اول مرة لما تعلمت الموضوع الفلاني وتاخذ مني في كل مرة نفس الوقت الطويل واغلبه يضيع بالبحث عن المصادر والتاكد من صحتها.
طبعاً موضوع السكند برين مازلت جديد فيه ومازال عندي افكار لتطويره بشكل افضل بحيث يكون في ترابط بين هذه الخلاصات والمعلومات وان لا تكون مجرد ملفات منفصلة تحتوي معلومات.