لا يمكن ترويض المبدعين


في بدايات الإنترنت وقبل نهضة الشركات الناشئة في المنطقة، كُنا غارقين في اكتشاف هذا العالم العجيب، ونتعلّم كل شيء حتى أصبحنا نفعل كل شيء. وأعني بـ «نفعل كل شيء» بأن أغلبية المستخدمين في تلك الفترة كانوا مُتسلحين بالمهارات المتعددة، التي تعلموها نتيجة الفضول «والتجربة والخطأ»، والممارسة. هذه المهارات مكنتنا من بناء مواقعنا الشخصية و مدوناتنا ومنتدياتنا، ومهدت الطريق إلى المحتوى العربي. وكان من الطبيعي جدًا أن تجد شخص واحد يقف خلف «موقع بالكامل»، فهو الذي يكتب، ويوظف ويتابع مع مشرفي الموقع، ويقوم بمهام الدعم الفني، ويعدل على الكود البرمجي، وله بعض اللمسات في التصميم، ويفكر في التطوير والتحديث. هو ليس خبير في كل هذه المهام. لكنه جيّد لحد ما في واحدة منها، وبقية المهام يستطيع أن يتدبر أمره.! هذه المهام التي كان يقوم بها شخص واحد من جيلنا، أصبحت في وقتنا الحالي «مسميات وظائف في الشركات الناشئة»، لن أبالغ لو قلت بأن شخص واحد من جيلنا كان يقوم بخمس وظائف حاليًا وربما أكثر. هذا الجيل انقسم إلى ثلاث مسارات: إما قام ببناء شركتة الناشئة أو عمل في الشركات الناشئة أو خرج من المجال نهائيًا. أما من قام ببناء شركته الناشئة فإن العمل معه صعب جدًا لأنه «يوظف بناءً على المهارة» ودائمًا يريد منك فعل المزيد، لأن عقله تبرمج على المهارات المتعددة، علاوة على ذلك هذه ثقافة الشركات الناشئة في كل العالم. «نحن نوظفك على شيء واحد محدد جدًا، لكننا سنطلب منك أشياء أخرى». أما من عمل منهم في الشركات الناشئة من هذا الجيل، هو هدفي من هذه التدوينة، هؤلاء يواجهون أكبر تحدي في العمل لعدة أسباب:
يرغبون في فعل المزيد، لكنهم مُقيدين «تنظيميًا وإداريًا» بفريق من حولهم يساعدهم على تنفيذ مهام روتينية.
المساعدة التي يحصلون عليها «يعتبرونها تقييد لعضلاتهم» لأنهم يرغبون في فعل كل شيء بالصورة التي ترضيهم.
التصوّر الذي لديهم «تم توظيفهم حتى يفعلون كل شيء بحريتهم المعتادة» التي اعتادوا عليها لسنوات طوال، لكنهم يفاجؤون بأن فِرق العمل مقسمة لمهام صغيرة جدًا.
ثم يصلون إلى مرحلة «ما هو دوري الوظيفي بالضبط»؟
وربما يحصل تصادم بينهم وبين ثقافة الشركة الداخلية.
ثم تفشل تجربتهم في الشركات الناشئة، ويغادرون سريعًا.
يحصل ذلك في السيليكون فالي في أمريكا، وفي «أنس فالي» في الرياض.
لماذا نقع في هذه المشكلة مع المبدعين؟
بحكم قصص كثيرة من الزملاء أعتقد أن «ترويض المبدعين» ومحاولة مزجهم ضمن فِرق عمل صغيرة أو كبيرة هي عملية صعبة جدًا. الجيل الجديد من الموظفين في الشركات الناشئة، بدأوا حياتهم ضمن مسارات وظيفية دقيقة جدًا وربما كان مسارهم وظيفي مُحدد ضمن دراستهم الجامعية، في حين أن جيلنا لم يتعلّم هذه المهارات في الجامعة، وتعلم كل شيء من «مدرسة الإنترنت» فهو مُسلح بالمهارات المتعددة، في مقابل جيل يتقن مهارة محددة بشكل احترافي. الحالة ليست صِدام بين جيلين بقدر ماهي عدم وجود بيئة إدارية تفهم «المبدعين» وتساعدهم على الاندماج في الشركات الناشئة. لذلك يخرجون سريعًا ويعودون لعالمهم تنفيذ المهام بشكل مُستقل، ويستطيعون إدارة أنفسهم. ويخرجون من عبء تقييد الإدارة في الشركات الناشئة.
ما هو مستقبل عمل المبدعين؟
كثير منهم عاد للعمل بشكل مستقل، وتعاون مع مستقلين آخرين.
سيلجأ كثير منهم إلى اعتمادية كاملة على منتجات الذكاء الاصطناعي في تنفيذ المشاريع.
سيكون جزء كبير منهم خارقين للعادة، وإنتاجهم يُعادل إنتاج شركة ناشئة كاملة من 50 موظف.
مع سرعة التشريعات والأنظمة في مجال العمل سيكون مسارهم الوظيفي واضح وآمن.
كلنا سمعنا عن شركات مليارية خلفها فِرق عمل من «5 إلى 9 موظفين»، سوف نسمع قريبًا عن شركة مليارية خلفها شخص واحد. هو الموظف والمؤسس الوحيد.
تفوق فرد على شركة ناشئة ربما يكون ضرب من الخيال، لكن لو فكرت «مُنتجات الشركات» وحللتها بشكل دقيق ستجد أنها «مشاريع يمكن تجزئتها لمهام»، هذه المهام ربما لأن الشركات الناشئة «باذخة» بسبب جولات التمويل فهي تُقسمها على «موظفين محددين» لعدة اعتبارات مثل ضمان الإتقان، وعدم إرهاق الموظفين، ورفع قيمة الجودة وغيرها. لكن أنت كمستقل مبدع مع قليل من أدوات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تخلق مُنتجات مشابهة. لكل أصدقاء هذا الجيل العظيم، المستقبل لنا. اطمئنوا!

مدونة شخصية و نشرة بريدية ، تدور حول «التقنية، الاقتصاد الرقمي، والمحتوى»