مستقبل البرمجيات العربية

المستخدم العربي سوف يدرك أهمية البرمجيات العربية، لذلك سنشهد هجرة عربية نحو هذه البرمجيات.

بعد أول أسبوعين من بداية «الحرب على غزة» كنت أراقب الحرب من زاوية أخرى و أطرح تساؤلات تدور حول «البرمجيات»، قد يبدو لك أن البرمجيات لا علاقة لها بالحرب وهذا صحيح، لكنها قضية كانت تشغلني وأعتقد أننا في الطريق الصحيح إلى «تغيّر عقلية المستخدم العربي نحو البرمجيات العربية». والسبب الرئيس لهذا التغيّر هو الحرب على غزة. و سأشرح لك بالتفصيل سر هذه العلاقة و كيف سيحدث ذلك.

المستخدم العربي كان يحتاج صدمة في مصداقية الحضارة الغربية و زيف شعاراتها، مع الأسابيع الأولى للحرب كان تحيّز وسائل الإعلام ضدنا متعمد، وكالة رويترز تقول الصواريخ أُطلقت من «جهة إسرائيل» ولم تقل «أطلقتها أسرائيل»، والغارديان تفصل رسام الكاريكاتير «ستيف بيل» بعد 40 عامًا قضاها في عمله، لأنه تجرأ وسخر من نتنياهو، مجلة ذي إيكونوميست تقترح «تصفية عرقية»، والأمثلة كثيرة على «إنعدام المهنية وتقييد حرية الصحافة والتعبير». ثم جاءت الشبكات الاجتماعية و مارست كل أنواع التضييق على أصواتهم، وحرمتهم من التعبير.

كل الشبكات الاجتماعية بلا استثناء كانت تميل إلى إسرائيل، وتحذف وتُلغي وتحضر أيّ صوت يميل للجانب الفلسطيني. ونجوم الصف الأول في هوليود كانوا عنصريين وقحين جدًا ضد العرب والمسلمين. هذا الانحياز الغربي أشعل غضب المستخدمين العرب، وجعلهم يتساءلون «أين شركاتنا التقنية العربية» أين البدائل العربية؟ لماذا ليس لدينا منتجات عربية وشبكات اجتماعية عربية، لماذا كل محتوانا موجود على منصات غربية «أمريكية تحديدًا».

هذا سؤال مشروع جدًا؛ ولهم كامل الحق في «لوم مجتمع التقنيين العرب» لماذا لم تخلقوا لنا بدائل عربية؟ وحتى أكون مُنصف في الإجابة على هذا السؤال؛ وسطنا التقني العربي عانا من عزوف المستخدم العربي لسنوات، وكُنا نكتب عن ضرورة الاعتماد على البرمجيات العربية من بداية الألفية، و أنتجنا الكثير من التطبيقات والبدائل، بل وحتى أنظمة التشغيل. ثم نجد نفسنا نُلام على تقصيرنا.!

من أول يوم لظهور الشبكات الاجتماعية الغربية كان المبرمجين العرب حاضرين بإطلاق بدائل عربية تركز على «دعم كامل للغة العربية» وبميزات تنافس بل وتتفوق أحيانًا على التطبيقات الغربية. كمثال كان لدينا موقع «وت وت» (watwet.com)، هو شبكة اجتماعية تشبه تويتر «إكس» أُطلق في نهاية عام 2007. وهناك شبكة «مصر بوك» (msrbook.com)، وهي شبكة اجتماعية تشبه فيسبوك، وهناك تجربة موقع جيران (Jeeran.com) وهي شبكة اجتماعية جاءت بوقت مبكر جدًا في عام 2000، كانت لديّ صفحة على الموقع وفي تلك الفترة عرفت قوة بناء السمعة الرقمية وتكوين الصداقات عبر الإنترنت. ومن التجارب العربية «موقع إكبس» (ikbis.com) و هو شبكة اجتماعية تشبه يوتيوب مخصصة لمشاركة وعرض مقاطع الفيديو. هذه أمثلة قصيرة و سريعة من الذاكرة. لكن الأمثلة كثيرة جدًا على برمجيات عربية كانت قادرة على المنافسة.

هذا ليس بُكائًا على الماضي وتفريطًا في الفرص الضائعة، لكنها فرصة تاريخية لمراجعة أخطاء مارسناها. والآن نريد إصلاح المشكلة والبداية من جديد. هذه العقلية التي يجب أن نعمل بها التعلّم من الأخطاء واستمرار المحاولة. السؤال اليوم: كيف نستثمر «هذه الصدمة» التي تعرض لها المستخدم العربي، بطريقة عكسية تجعله «مُتبني لكل البدائل العربية»، بشرط أن تكون حالة التنبي خالية من «الشعارات العربية والدينية»، بمعنى أن يعتمد على استخدام البرمجيات العربية «لأنها الأفضل وذات قيمة وجودة أعلى».

لن أخطي الصواب إذا قلت بأن العالم كان يمكن أن يحمل ثلاث أنظمة تشغيل مغلقة المصدر، ويندوز من مايكروسوفت، وماك من آبل، وصخر من شركة صخر العربية. «إلا أن مايكروسوفت كان لها رأي آخر»، كان محمد الشارخ «رحمه الله» رائد أعمال عربي يواجه هذه القضية لوحدة في غياب كامل من كل مؤسسات الدول العربية وصحافتها وإعلامها.

اليوم نشهد حرب بين الرئيس الأمريكي والحكومة الصينية حول تطبيق تكِ توك. وهو مثال صغير على القدر الذي وصل له «تأثير التقنية على القرارات السياسية والاقتصادية والأمن القومي للدول». خذ قصة حذف تطبيق صراحة من متجر آبل وقوقل كدليل صريح واضح لا يقبل النقاش بأن السيادة الرقمية يجب أن تكون للغرب فقط. لا يُسمح لتكِ توك الصيني أو صراحة السعودي أو ياندكس الروسي بأن يأخذ هذه الأحقية والنفوذ. «النفاق والكذب الغربي في المثالية والحقوق والحريات لا حدود له».

أعلم أنها قصص ربما تبدو محبطة لأيّ رائد أعمال في المنطقة يرغب في التغيير؛ لكن «عندما تتوقف وتفكر قليلًا ستجد أنها فرصة تاريخية للنهوض»، في أيّ حديث لي مع رائد أعمال عربي عندما أسأله عن الاستهداف أو النمو، يقول لي العبارة الشهيرة «نحن تطبيق عربي نستهدف 400 مليون عربي هم سكان المنطقة العربية »، وهذا تفكير جيّد لحد ما. لكنه استهداف غير صحيح لعدة أسباب مهمة قد يغفل عنها أغلب رواد الأعمال:

  1. ليس كل سكان المنطقة العربية لديهم وصول للإنترنت «هناك أرقام تقول أن عدد المستخدمين 182 مليون فقط»

  2. ثم أن الشريحة العربية التي تستخدم الإنترنت غالبًا تستخدمها لاستهلاك الأخبار، لأن وضعها السياسي والاقتصادي سيء. «لا تفصل السياسة والاقتصاد» عن مشروعك التقني.

  3. علاوة على ذلك الغالبية العظمى تستقي أخبارها من الشبكات الاجتماعية. وهذا مؤشر خطير على أن جزء كبير من نمط تفكيرهم «ملوث بـ الشائعات والأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة».

  4. ثم لدينا شريحة كبيرة من العرب تستخدم اللغة الإنجليزية في التواصل. «المصيبة أنها الشريحة الفاعلة والمؤثرة والتي غالبًا تملك القرار»

  5. مشروعك الناشئ غالبًا يحتاج لإنفاق «الطبقة الوسطى» في العالم العربي. وهي طبقة صغيرة جدًا حتى في دول الخليج الثرية بدأت تتلاشى.

  6. لازلنا نُعاني من الأمية في الوطن العربي، بحسب تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم سيكون هناك 100 مليون أمي عربي بحلول عام 2030 إذا استمرت الأوضاع السياسية السيئة.

  7. بسبب الأوضاع السياسية هناك أجيال عربية «ولدت وعاشت وتشكلت ثقافتها في الملاجئ أو دول غربية» هل تعتقد أن «الوحدة العربية» ستكون ضمن الشعارات التي ترفعها أو تؤمن بها؟. لاحظ أن هذه الشريحة ستكون هي الشريحة التي «تتصفح وتكتب وتطلق المشاريع في الإنترنت خلال السنوات القادمة».

مما سبق أنت لديك شريحة مستخدمين مطحونة، تعيش في منطقة مضطربة سياسيًا، وقد تبدو «مشاريع النهضة والريادة والتفوق على الأمم» هي مشاريع إما غير مطروحة على الطاولة أصلًا أو مشاريع يتم الاستخفاف بها لأن سكان المنطقة منشغلين بتفاصيل وأحداث معيشتهم اليومية المتعثرة و وضعهم السيء. أما أفكارك الريادية العظمى سيهتم بها شريحة صغيرة جدًا هم «منظومة ريادة الأعمال العربية». بعد كل ذلك هل لا زالت هناك فرصة؟ نعم هناك الكثير من الفرص في خلق نهضة للبرمجيات العربية، بشروط ليست مستحيلة لكنها معقولة. فقط ركز على نواة محددة، مستقرة أمنيًا واقتصاديًا، وأعني هنا السعودية للأسباب التالية:

  1. استهدف الجمهور السعودي حصرًا. «شريحة مستهلكة وصانعة للمحتوى وتعليمها جيّد».

  2. معدل انتشار الإنترنت 99%.

  3. عدد مستخدمي الأنترنت 35 مليون مستخدم.

  4. هناك 71% من السكان تقل أعمارهم عن 35 عامًا مجتمع شاب.

  5. حجم الطبقة المتوسطة 34% من السكان.

  6. الحكومة أكبر مستثمر في التقنية.

  7. ثقافة ريادة الأعمال موجودة في جينات السعوديين.

  8. بلد يملك رؤية واضحة 2030.

بفضل الله ثم بفضل قائد ذكي ومُلهم وشجاع مثل الأمير محمد بن سلمان، أجزم أن السعودية ستكون «جنة الرياديين العرب» وأفضل مكان لبناء شركة ناشئة في المنطقة. كلنا قرأنا وسمعنا عن هجرة رواد الأعمال للرياض، وليس سرًا أن بعض رواد الأعمال العرب حصلوا على الجنسية السعودية أو الإقامة المميزة. فالسعودية لديك كل شيء التشريعات والأنظمة، التمويل، المستخدمين، البنية التحتية التقنية. إذا أردت أن تنجح ركز فقط على السعودية. عليك أن تقرأ تاريخ المنطقة بشكل دقيق، لتعرف أن السعودية هي أفضل مكان ليس لممارسة التجارة فقط بل حتى لمستقبل الحياة الكريمة في المنطقة. بلا أدنى شك نتمنى الخير والرفاه لكل أخوتنا العرب. لكننا نتحدث وفق مؤشرات بعيدًا عن المشاعر.

علاوة على ذلك كله إن رواد الأعمال والمبرمجين العرب الذين ليس لديهم وعي أو فهم لتاريخ المنطقة السياسي والثقافي، هؤلاء هم أكبر عائق لتقدم المنطقة. يجب أن تقرأ تاريخ منطقتك بشكل واضح. حتى تعرف كيف تشكلت كل هذه الدول. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ومنطقتنا العربية تعاني من «التقسيم والتفتيت» ثم دخلت في مراحل أخرى في «تفتيت التفتيت» لذلك لو نظرت لخريطة الوطن العربي، ستجد تواريخ توثق كل حالات التفتيت:

  • اتفاقية سايكس بيكو 1916

  • مؤتمر سان ريمو 1920

  • تقسيم فلسطين 1947

  • تقسيم السودان 2011

كلها تواريخ هامة خلقت لنا هذه «البلاد المفتتة المتنازعة الغارقة في مشاكلها الداخلية، والتي تعاني من توترات مع جيرانها». وهكذا نجحت الفكرة الخبيثة «فرّق تسُد». لذلك أحلامك الوردية في بناء برمجيات عربية لن تجدها إلا في دولة «قوية وذات سيادة واقتصادها متين وتستثمر في التقنية» وأعني هنا السعودية. «المستخدمين و رواد الأعمال والحكومة» يتشاركون سويًا في بناء منظومة أعمال صحية. لا زالت في بدايتها. لدينا أخطاء نعم. لكننا نتعلّم بسرعة، ونبني بسرعة. و نحقق نجاحات عظيمة.

وقبل أن أختم أُريد أن أذكر قصة من التاريخ لعلها تكون درس لنا جميعًا؛ في أبريل 2024 أكمل تطبيق البريد الإلكتروني Gmail عشرين عامًا منذ إطلاقة في العام 2004، أذكر تلك الأيام التي أعلنت فيها قوقل عن الخدمة كُنا متعلقين بخدمة الهوتميل من أجل تطبيق المراسلة ماسنجر، ونستخدم ياهو لأنه «بوابة ياهو هي الإنترنت» في ذلك الوقت. أول شيء لاحظناه كانت «خدمة جيميل في مرحلة التجربة» بيتا، وظلت الخدمة في مرحلة بيتا لمدة خمس سنوات وكبرنا معها وتحملنا كل أخطائها ورضينا بكل عذاريبها، وكُنا نفرح بكل تحديث جديد يضيف ميزة جديدة. هذا الصبر على البرمجيات الغربية تكرر مع تويتر كانت نسخة تويتر الأولى غبية، والتطبيق يتوقف عدة مرات ولا تستطيع إدراج الصور ولا الفيديو وكان الموقع يعيش على برمجيات الطرف الثالث، لكن العرب التفوا حوله و عربوه! لم يستخدموا تطبيق عربي لكن قاموا بتعريب المنتج، كان قرار استراتيجي خاطئ من المستخدمين.

إذا أردنا للبرمجيات العربية أن تتطوّر وتنمو لابد أن نستخدمها ونعتمد عليها، وهذا سيشكل ضغط على المطوّر العربي الذي سيجد أن نمو عدد المستخدمين المنتظم هو أكبر حافز لأيّ مبرمج على أن يُشمر عن ذراعيه ويشتغل! اليوم تلاقت «أحلام المبرمجين العرب مع رغبة عارمة وصادقة من المستخدمين العرب» إن الوصول إلى «ثقة المستخدم العربي» كانت مرحلة طويلة جدًا تخللتها محاولات عديدة. اليوم المستخدم العربي أصبح «أكثر إلحاحًا في الطلب، لدرجة أنه يريد برمجيات تحديدًا من بلده». أنا لا أؤمن بمبادرات المحتوى العربي التي يُصرف عليها أموال وتُجمع لها عدة حكومات ودول، ويُقام لها احتفالات وتُعقد لها ندوات ومحاضرات.

أنا مؤمن فقط بفريق صغير «من خمسة إلى سبعة من الشباب العرب» يخلقون منتج عربي، لأنهم مؤمنين به، هكذا تخرج الأفكار الحقيقة. أعتقد أننا نعيش اليوم فترة «أيام الربيع بالنسبة للبرمجيات العربية»، اليوم تطبيقات مثل راديو ثمانية للبودكاست و موقع ثمانية للتدوين والنشرات البريدية، و موقع سنديان لإنشاء مواقع ويب خلال دقائق، دون الحاجة إلى خبرة في البرمجة أو التصميم. كلها أمثلة على برمجيات يقف خلفها رواد أعمال عرب لديهم رغبة في بناء منتجات عربية للمستخدم العربي وبلغة عربية. علينا فقط أن نعطي البرمجيات العربية كل الوقت والصبر حتى تنضج تجربتها وننهض بالمنطقة جميعًا.

صبر جميل والله المستعان.

سفر عياد
سفر عياد
- نشرة بريدية كل خميس

مدونة شخصية و نشرة بريدية ، تدور حول «التقنية، الاقتصاد الرقمي، والمحتوى»