لا تحكي تاريخ طفولتك في البودكاست

لماذا فشلت برامج البودكاست في رواية قصصنا المحلية؟!

هل فشل البودكاست في سرد قصصنا؟
هل فشل البودكاست في سرد قصصنا؟

أنا لست مُهتم بسماع قصة طفولتك،  أريد شيء واحد فقط أخبرني ماذا تعمل الآن، وإذا أردت أن تحكي شيء عن ماضيك. دعنا نكتفي فقط بسيرة حياتك المهنية خلال العشرين سنة الماضية فقط ونركز على قضية واحدة واحدة فقط، تكون هي منطلق حوارنا.

كرمًا حاول أن تختصر لديّ محتوى كثير ينتظرني أريد استهلاكه. أنا لست مُهتم بسماع قصة طفولتك، لا تتشعب في الحديث حافظ على سياق واحد للقصة.

أعتقد أن ما يعيب برامج البودكاست العربية هو «ضعف وسطحية مُعد الحلقة»، نعم لدينا مُعدين سطحيين جدًا ولديهم صورة نمطية واحدة عن فكرة الإعداد، تتلخص في سرد المراحل العمرية التي مر بها الضيف، وغالبًا تبدأ بالسؤال المكرر الملل «حكينا عن طفولتك؟»،  لذلك أصبح الإعداد بعيد جدًا عن «دراسة أبعاد الشخصية وخلق محاور عميقة ومفيدة للجمهور»، ويمكنك أن تلاحظ ذلك بكل بساطة عندما يتكرر نفس الضيف على أكثر من برنامج بودكاست. ستجد أن «قصته واحدة، سوالفه واحدة، كل شيء فيه مكرر ملل»، هل هو عيب الضيف نفسه؟ أم المحاور؟ أو فريق الإعداد العظيم؟!

من تجارب عديدة في إنتاج المحتوى بمختلف أشكاله، أعرف أن هناك الكثير ممن يعمل في «الإعلام الرقمي» لا زال يتعلّم، وهذا ليس خطأ أو عيب. لكن العيب الأكبر هو على «الخبراء في مجال الإعلام الرقمي» وأحمّل نفسي ذات المسؤولية، نحن لانحكي تجاربنا وخبراتنا، وليس لدينا مدونات نتحدث فيها عن ما يجب وما لايجب في الإعلام، لا نتحدث عن أخطائنا وعن نجاحاتنا. لأسباب كثيرة مثل أننا مشغولين جدًا في إنتاج المحتوى.

من أجل ذلك ترى أن الجيل الجديد من المواهب السعودية في قطاع الإعلام الرقمي. «تمارس التخبيص» حتى تصل للإتقان. وهو نموذج صحيح. نعم صحيح لأن ليس هناك خيار آخر. ليس هناك وسيلة وطريقة للتعلّم. «دورات المحتوى الموجودة في السوق» الغالبية العظمى منها يقدمها أُناس لم يكتبوا مقالة واحدة في حياتهم ولم ينتجوا مادة إعلامية واحدة. فقط ممارسة للتنظير أو مجرد محتوى باللغة الإنجليزية تمت ترجمته وتعليبة دون أيّ قيمة معرفية تفيد الممارس في الإعلام.

و وفق كل ما سبق؛ تجد أيّ مُعد للبودكاست لن يجد دورة تعليمية أو مقالة أو فيديو قصير يخبره بالطريقة الصحيحة لإعداد حلقة خاصة في البودكاست. ولهذا السبب نجد أن المُعد يلجأ للأسلوب التلفزيوني العقيم الممل في سرد قصة الضيف بطريقة روتينية مملة وفق هذه التراتبية «سيرة طفولتك، أين درست، أصدقاء الطفولة، ثم مرحلة الجامعة ماذا تعلمت، ثم مرحلة الزواج، ثم مرحلة الوظيفة الأولى، ثم تحديات العمل أو النشاط التجاري، ثم عطنا نصائحك وخبرات السنين». لأنه يرى كل السوق وكل برامج البودكاست تنتهج نفس الأسلوب. ويعتقد في قرارة نفسه أن «هذا هو الإعداد»، ثم أن ليس لدية الجرأة في الخروج عن السياق العام المتعارف عليه في الإعداد.

بسبب هذا الإعداد المكرر أصبحت كل برامج البودكاست العربية تتشابه لحد كبير في كل شيء، الخلطة أصبحت سهلة جدًا «أعطني رجل أعمال ثم طبق عليه نظرية الإعداد السابقة» و أدخل عليها نموذج «ما هي التحديات التي واجهتها وكيف تغلبت عليها»، ثم ضع عنوان رأسمالي يحرض الناس على كسب المال مثل: «كيف ربحت مليار ريال في أسبوع، أو الشركة التي باعت بعشرين مليار، أو تركت وظيفة براتب خمسين ألف» وهكذا تكون حصلت على المشاهدات ويبدأ فريق التسويق لديك في مخاطبة الشركات للإعلان في البودكاست الخاص بك. وعندها يعتقد فريقك الداخلي المسؤول عن البودكاست «المُعد، المقدم وبقية الفريق» أنهم نجحوا في فك لغز النجاح في البودكاست، وحققوا رغبة الجمهور، وكسبوا ثقة الشركات المعلنة. «ولا حول ولا وقوة إلا بالله».

هذا التخريب الذي يحصل في قطاع البودكاست العربي، خلق ردة فعل عند الجمهور الغاضب. الذي وجد أن حديث الضيوف لا يمت للواقع بصلة كما أن هناك تضخيم لكثير من قصص النجاح. والسبب في اعتقادي يعود للإعداد لا يمكن أن «تتشعب في كثير من القضايا خلال فترة قصيرة جدًا، مع جمهور مُشتت يستمع لك بنصف تركيز، و مقدم ليس بمحاور» وتطلب من الضيف أن يعطيك حديث ذو سياق واضح. مسؤولية نجاح أو فشل الحلقة أو حتى انعدام السياق في الحلقة تعود أولًا واخيرًا على فريق الإعداد. كما أن بعض مقدمي البودكاست لا يعرفون أيّ شيء عن أبجديات الحوار، وهذا ما يزيد الطين بلة.

دعني أشرح لك ما سبق؛ مقدم البودكاست الذي يقرأ الأسئلة المُعدة ويسألها فقط، هذا اسمه مقدم وليس محاور. ويمكن استبداله بسهولة. «ضع مكان المقدم جهاز تسجيل فيه كل أسئلة الإعداد، وقم بتشغيلها بشكل منتظم والضيف يُجيب وينتقل لكل سؤال، وجهاز التسجيل يسأل». هل نحتاج للمقدم هنا؟  لا يمكن الاستغناء عنه بدون ذكاء اصطناعي. يمكنك هنا استخدم «جهاز تسجيل مصنوع في السبعينات الميلادية» وسيقوم بدور المقدم بكل جدارة.

لكن مقدم البودكاست الذي ينتبه لحديث الضيف ويعتمد سؤاله التالي على إجابة الضيف، هذا يُسمى «محاور» وهو مفقود في كل برامج البودكاست العربية مع الأسف. «موجود في التلفزيون، هل تعتقدون أنكم في البودكاست تفوقتوا على التلفزيون. لا يا عزيزي أنظر لبعض الإعلاميين التلفزيونيين العرب. كيف هم أذكياء وعباقرة جدًا في خلق السؤال التالي من إجابة الضيف». هذا هو المحاور الإعلامي. أما حكاية «حكينا عن طفولتك وتستمر في سرد إعدادك الغبي» هذا ليس حوار وليس هناك وجود للمحاور. هذه المهارة تتطلب تركيز عالي من المحاور ويمكن التدرب عليها.

أنا مشكلتي مع النمطية المعتادة في الإعداد «طفولتك، وين درست، الجامعة، الزواج، الوظيفة … إلخ» أنها نمطية تكسر أهم القواعد التي يرفعها الجيل الجديد من صُنّاع المحتوى الرقمي. أنتم يا أهل الصحافة الرقمية تقولون نحن نصنع «محتوى إبداعي». كلكم بلا استثناء تكررون مصطلح «محتوى إبداعي». أين إبداعكم وأنتم تمارسون نفس المنهجية في برامج البودكاست بدون «إبداع».

حسنًا إذا كنت توافقني الرأي وتعتقد أن هناك مشكلة في برامج البودكاست العربية، تعال معي أخبرك كيف نصلحها. أما إذا كنت تعتقد أن ليس هناك مشكلة في سوق البودكاست العربي. «الله يهني سعيد بسعيدة» استمتع بعيدًا عني أنا مُنزعج جدًا من المحتوى العربي و أريد إصلاح السوق.

ما هي المشكلة لو استضفت كمثال الوليد بن طلال وكان حديثكم لمدة ساعتين عن استثماره في التقنية. فقط موضوع واحد محدد جدًا،  ويتجاهل كل شيء عن حياة الأمير الخاصة والعامة، فقط يركز عن فلسفته الاستثمارية في التقنية، والأخطاء التي مارسها في بداية الألفية، ونظرته للشركات التقنية العربية. وهكذا يستمر نقاشكم لمدة ساعتين في ذات الموضوع، تحاول تفكيك قضية واحدة تهم طيف كبير من رواد الأعمال في منطقتنا العربية. ستكون حلقة مرجعية في ذات الموضوع و سيتكشف عنها كثير من التفاصيل التي ستؤثر في الاقتصاد الرقمي في المنطقة. لكن لو كان الإعداد روتينيًا مملًا سيفكر المُعد بالطريقة الكلاسيكية السطحية «حضور ضيف مهم يعني فتح كل الملفات المعنية بالضيف» وهكذا أحقق مشاهدات أكبر، واهتمام كل شرائح المجتمع. وهذا الخطأ الكلاسيكي المعتاد من الجميع. ضع مكان الوليد بن طلال أيّ مثال آخر «شخصية علمية، دينية، تجارية، سياسية، اقتصادية ..إلخ». ستجد أن ظهورها في البودكاست كان سيء وحضورها باهت.

مثل هذه الحلقات تسبب صدمة للجمهور، لا تعتقد أنك كسبت الجميع بل على العكس «سيهاجمك الجميع» لأنك لم تتحدث عن القضية التي كان ينتظرها من الضيف. أثناء الإعداد كنت تضع الكثير من القضايا التي تقاطعت مع حياة الضيف وتريد تغطيتها في وقت ضيّق جدًا من ساعتين لثلاث ساعات. يعني ذلك أنك سوف تقوم بالمرور على كافة القضايا مرورًا سريعًا. دون تمحيص وتدقيق وترك المجال للضيف أن يتحدث بإسهاب عن كل هذا الكم الهائل من القضايا المتشعبة، وتكون النتيجة، ساعتين من الأحاديث المنفصلة الغير متصلة بسياق محدد. مما خلق حالة من عدم الفهم لكثير من القضايا التي طُرحت.

لذلك تنشأ حالة من  الالتباس عند الجمهور بعد كل حلقة ونشاهد ونسمع عن ذلك في الشبكات الاجتماعية. ستجد أن المشاهدين يقولون تأتي بضيف وقامة عظيمة مثل فلان، ثم تسأله عن قضية «سين»، وفي المقابل تجد فئة أخرى من الجمهور تقول لك أنك فشلت لأن كل اهتمامها هو القضية «ص» وأنت لم تتحدث عنها إلا في عشر دقائق فقط، وهناك جمهور عريض مُهتم بالقضية «ع» غاضبين جدًا لأنك سألت فيها سؤال واحد ثم انتقلت لمحور القضية «ص» التي يعتبرونها هامشية وليست محل نقاش.!  مبروك عليك التقيت مع ضيف كبير جدًا، لكنك خسرت ثقة كل جمهورك بسبب الإعداد الممل الذي مارسته.

أنا مُهتم بسماع قصة طفولتك في حالة واحدة فقط، إذا كنت أقرأ كتاب في كتب السيّر الذاتية التي أحبها جدًا، لديّ طاقة صبر كبيرة في سماع قصتك طفولتك، لأني أعلم تمامًا أن لها تأثير كثير في مسيرتك المهنية، كمثال في السيرة الذاتية لستيف جوبز كان من المهم أن تتعمق في تاريخ طفولته حتى تعرف لماذا هو متعجرف جدًا، ولا يكاد يبالي بأغلب الأعراف في العمل، سوف تكرهه وتشفق عليه كثيرًا عندما تقرأ طفولته. بعد ذلك تنتقل لمسيرته المهنية وتفهم كل «معاركه» وتصرفاته الغير لائقة مهنيًا في الغالب. كل ذلك نابع من جذور الطفولة. لذلك الكتب هي الشكل المناسب لمحتوى «حكينا عن طفولتك» لأن مستهلك المحتوى هنا هو قارئ لديه طاقة صبر كبيرة في القراءة، وسوف يعيش مع الكتاب وقت طويل. أما مستمع أو مشاهد البودكاست ليس لديه الوقت كما أنه مُشتت وليس في وضع التركيز الكامل. وأنت تقوم بعرض كم هائل من القضايا في فترة قصيرة جدًا. حتى لو كان مدة حلقة البودكاست عشرين ساعة لن تصل لمرحلة الاستيعاب الكامل.

اخرجوا عن النمطية في صناعة البودكاست، خروجك عن النمطية سيجعلك متفرد وتكسب شريحة جمهور جديدة، هي شريحة موجودة الآن ربما لا تسمع صوتها. لكنها غاضبة منزعجة تبحث عن بديل لكل ما هو موجود حاليًا. لكنها في كل مرة تصطدم ببودكاست جديد يمارس نفس النمطية في الإعداد والتقديم والنشر.

أيضا أعتقد أن قوة البودكاست تعود لقوة المحاور «أعطني مواطن عادي من الشارع» وتحدث معه عن قضية معينة، هنا يبرز الفرق بين «المذيع، والمقدم، والمحاور». إذا استطعت أن تخلق حورًا مفيدًا مع شخص من عامة الناس. تكون أتقنت العمل الصحفي. لكن سرد قصص الناجحين في الحياة هو مهمة سهلة جدًا.

سوقكم خربان صلحوا الإعداد أولًا. ثم تفرغوا للتنافس على المايكات والكاميرات الغالية :)

سفر عياد
سفر عياد
أربعاء

مدونة شخصية، تدور حول «التقنية، الاقتصاد الرقمي، والكتب»