التقييم السنوي: هو لعنة الشركات الإبداعية

كيف يساهم التقييم السنوي في قتل الشركات الإبداعية؟

أعمل بشكل مُستقل «فريلانسر» منذ أول يوم دخلت فيه الإنترنت للسعودية، تقريبًا من العام 2000 ميلادي، اليوم وبعد 25 سنة، من الرائع أن أسرد بعضًا من هذه القصص. بغرض توثيقها أولًا. ثم إعادة النظر والتفكير في تلك المرحلة مقارنة مع ما يعيشه المُستقلين الآن من حياة مرفهة.

في تلك الأيام كُنا ننجز الأعمال بنموذج غريب لكنه يساعد على التركيز والصفاء الذهني. كنت أحجز غرفة في فندق لمدة يوم أو يومين. بحسب مدة المشروع. أغلق الغرفة وأبدأ في العمل. «صلاة، نوم، عمل، أكل» ثم أكررها.  حتى أُنهي المشروع كاملًا. لم تكن لدينا مقاهي، ولم يُخلق بعد مفهوم مساحات العمل. كان المكان الوحيد للإنجاز «غرفة صامتة في فندق رخيص وغالبًا تعيس».

عندما أذكر تلك الأيام، أذكر أن نسبة إنجازي كانت خارقة للعادة، قياسًا مع نسبة الإنجاز الحالية. ربما لأني كبِرت وربما يعود السبب الحقيقي إلى غياب المُشتتات. وبعد هذه السنوات أعرف أن العمل في وجود الشبكات الاجتماعية والهواتف الذكية. مُقلق ومُشتت جدًا. لم نكن نحمل هواتف ذكية ولا غبية كان التواصل بالإيميل. لم تكن «جودة المكالمات جيّدة في سكايب»، كُنا نحتاج إلى «كتابة طويلة جدًا تشرح العمل وطريقة تنفيذه، يصلنا الرد من العميل بنفس عدد الكلمات وغالبًا أكثر في مقالة تحوي نُقاطًا تفصيلية ومحددة لنطاق المشروع ما يُطلب منا بالضبط». هذه المهارة في الكتابة الطويلة، دربت عقولنا على شرح أفكارنا بشكل واضح، ولا شك أن الكتابة هي أفضل أداة يملكها البشر لشرح أفكارهم.

في بيئات العمل هذه الأيام نجتمع مع العميل أونلاين، وفي مقره الرئيسي، ويصلنا إيميلات منه، وهناك رسائل صوتية في مجموعة واتساب، ومكالمات هاتفية، وعروض تقديمية من ثلاثين وربما مئة شريحة. ومع كل ذلك تتأخر المشاريع ويحصل دائمًا سوء فهم للمشروع ومتطلبات العميل. أحيانًا يصيبني شك في نفسي. «هل أنا غبي أم كبرت وقل تركيزي أم هذا الجيل ذكي لدرجة أنه يفكر أسرع مني». لكني أجد الجميع يعاني من معضلة «عدم فهم متطلبات العميل». فيطمئن قلبي. لأن الغباء موزع بالعدل على كافة قطاعنا الإبداعي. وليس حصرًا عليّ.

فِرق العمل اليوم توسعت بشكل مُتشعب، وهي نتيجة طبيعية لتطوّر المنتجات الرقمية، اليوم فيديو قصير من ثلاث دقائق يُعرض على يوتيوب. ستجد أن خلفه 30 موظف. حاول أن تركز في تفاصيل ومسميات الوظائف عند نهاية الفيديو  عندما تظهر لك شارة نهاية الفيديو ويبدأ عرض أسماء فريق العمل. سوف تُذهل من المسميات الوظيفية وتعدد الأدوار.  هذا تحدي كبير لأيّ مدير مشاريع. «كيف يُدير كل هؤلاء، بالذات إذا كانوا مجانين ولديهم الأنا المتضخمة». أيضا ما هو العقل الذي سوف يستطيع تقييم هذه الأدوار التفصيلية الصغيرة. 

عندما توسعت في قراءة ثقافة الشركات وجدت أن أمازون وآبل يعلمون بنفس نموذجي الكتابة، حتى الأصدقاء في ثمانية كُنا نعمل بنموذج الكتابة.  هل دخل جيل جديد من الموظفين لا يُحسنون الكتابة أو لا يضعون لها أيّ اعتبار. لا أعلم. ربما!

وعلى ذكر فقد التركيز؛ قرأت الكثير من الكتب في موضوعات الكتابة والتركيز والإنتاجية، و وجدت الجميع يتفق على قاعدة واحدة، «أعمل في بيئة خالية من المُشتتات وأرفع معدل تركيزك باستمرار». سطح مكتب عليه اللابتوب فقط. المتصفح يعرض مستند الكتابة فقط. هاتفك في الغرفة الثانية أو في جيبك أو شنطتك لكنه على الوضع الصامت وبدون تفعيل الاشعارات.

لا تقلق من مشكلة كيف أبدأ الكتابة، أكتب فقط. ثم أكتب ثم أكتب. بعد ذلك نقح أفكارك وفلرتها. المهم أن تبدأ في الكتابة. ولا تنسى مكافئة نفسك بعد إنجاز الكتابة «عقلك يحب المكافآت، والنفس البشرية ضعيفة وتنحاز للمغريات». قد تكون قواعد بسيطة أو وربما يديهية. لكننا مع الأسف لا نعمل بها.  وعندما أُقارن هذه القواعد بنموذج عملي قبل 25 سنة. فعلًا أجدني كنت أعمل بنفس النموذج لأن المُشتتات لم تكن موجودة.

اليوم نهرب من مكاتب الشركة حتى نُنجز المهام في المقهى، أو نأتي للعمل في الصباح الباكر حتى ننجز قبل أن يأتي الزملاء مُحملين بأحاديثهم الجانبية. «غالبًا مُملة وسوالف عن أطفالهم»، أو تنتظر حتى يخرج الجميع من المكتب وتُنجز المهام وتقفلها. ثم تعود لمنزلك في المساء.

لذلك أجد أن قيّاس الإنجاز في البيئات الإبداعية والتقييم السنوي، هو ظالم بشكل كبير جدًا. ولن تنجح أيّ شركة في قيّاس أداء الموظفين. لسبب بسيط جدًا قد لا تدركه عقول من يقومون بالقياس. المُنتج الإبداعي لا يمر في خط إنتاج مصنعي. بحيث يكون مجزأً على عدة مراحل. وفي كل مرحلة يكون هناك وقت محدد وعدد محدد من المنتج. لا ياسادة يا كرام. ما هكذا تُورد الأبل في المراعي الإبداعية.

المنتج الإبداعي عبارة عن رحلة من الأفكار لا تعلم متى تبدأ ولا كيف تنتهي.  يمكن أن يبدأ مُخاض الأفكار في اجتماع عصف ذهني لمدة ساعة، وممكن أن يتأخر المخاض إلى شهر أو سنة. ثم بعد نضوج الفكرة يبدأ إنتاج العمل وربما احتاج إلى بناء فِرق عمل ذات مهارات محددة دقيقة التخصص. ثم أن جمع هذا الفريق يحتاج إلى بحث و مفاوضات وشرح للفكرة. وهذه العملية ممكن أن تحتاج إلى عدة اجتماعات سريعة،  وممكن تطول وتحتاج إلى شهرين. ثم هنالك البدء في طرح التصوّر الأولى للفكرة. يحتاج ثلاث أيام عمل وممكن أسبوعين عمل وربما ست أشهر من العمل. لا أعلم على وجه التحديد كم سوف احتاج.!

هل رأيت أنني لم أعطك موعد نهائي أو شكل واضح للمخرجات أو نموذج محدد لمنهجية العمل، لأني فعلًا لا أعرف وهكذا نعمل. «أنتبه نحن لسنا فوضويين» لكن المنتجات الإبداعية ليست خط إنتاج في مصنع. لسبب بسيط «العقول التي تعمل على المنتج لديها طُرق ونماذج عمل مختلفة، إجبارها على طريقة عمل واحدة يقد يُفسد المشروع كاملًا». أنت وظفته لأنه موهوب لذلك «أصمت ودعه يعمل بنموذجه»

هكذا تعمل البيئات الإبداعية، لذلك «العقل الرِقابي التقييمي البيروقراطي» ربما يظن أن هذه المراحل هي تعمد في التأخير وتسيّب، وعلى ضوء ذلك يعطي تقييم منخفض. وربما قام بالفصل. وهذا نوع من قصور الفهم للبيئة الإبداعية هدفه محاولة ضبط فِرق العمل والتخليّ عن الجودة في مقابل الإنضباط. أنت كرئيس تنفيذي ربما تظن أن المُقيّم قام بدوره الصحيح. وهو بجهله سيُسهب في الشرح ويخبرك بأنه جلب الانضباطية للشركة والجميع الآن يعمل بشكل متقن. «ومصنع الشركة يعمل في دورة الإنتاج» بخط إنتاج ثابت «ثمانين منتج مُعلب يوميًا». ثم لا تجد إلا أن تقوم بمكافأة هذا المُقيّم لأنه «حوّل الشركة الإبداعية إلى شركة منتجات مُعلبة بفلسفة مصنعية».  وسلم لي على الإبداعية.

هل تذوقت من قبل «كوسة محشي بدون ملح»، مرة تذوقتها لأن الطباخ «الله لا يوفقه» نسي الملح فكانت أسوأ تجربة في حياتي. جعلتني أقطع علاقاتي الدبلوماسية مع «الكوسة المحشي» وأسحب السفير. بالرغم من أنها كانت من الأطباق المفضلة لديّ. وكان الله عفوًا غفورا.  أذكر أني كنت جائع جدًا ومحبوبتي «الكوسة المحشي» كانت تنتظرني على الصحن. والمطعم ممتلئ بالناس. «ولعلني كبّرت اللقمة» وأخذت قضمة كبيرة من الكوسة. وعند مضغها اكتشفت أن الكوسة وحشوتها كانتا بدون ملح. وكنت أمام خيارين إما  أُخرجها من فمي وارميها على الصحن «برستيجي ما يسمح لي». أو ابتلعها وأنا ساكت. وفعلًا ابتلعتها.

نفس «صحن الكوسة المحشي» يتكرر في البيئات الإبداعية كثير من الرؤساء التنفيذيون يبتلعون أخطاء «فِرق العمليات» أو من يتولون إدارة المهام اليومية وتشغيل الشركة بدعوى أنهم كرؤساء تنفيذيون يركزون على الرؤية ومنتجات الشركة الكبرى وميزانية الشركة وغيرها من الأمور التي تحدد مصير الشركة وتحتاج لصفاء ذهني كبير. بعيدًا عن «عِراك المهام التشغيلية اليومية» التي تحتاج إلى قرارات سريعة وسرعة بديهة ومعلومات مُحدثة بشكل يومي ومطاردة الموظفين والمهام والمستقلين والموردين. «والتأكد أن هناك ما يكفي من علب المناديل وعبوات المياة في مكاتب الموظفين»

لذلك يُخطئ كثير من الرؤساء التنفيذيون في بيئاتنا الإبداعية عندما يضعون ثقتهم في «فِرق تقييم أو مدراء تشغيل» من خارج الوسط الإبداعي. بمعنى «ماعمرهم في حياتهم قاموا بإنتاج إيّ منتج إبداعي ولا حتى كتبوا سطر مقالة» لذلك هم مغيبين تمامًا عن «مايحدث في المطبخ الإبداعي» ويحكمون حسب «منهجيات عمل منسوخة من قوقل ثم يضعونها في إكسل» ويقولون الله. لدينا أداة تقييم. «أنته كويس / أنته مش كويس»

طبعًا لدينا استثناء هنا هو بيل كامبل، صحيح أنه من خارج الوسط التقني تمامًا لكنه مدرّب نخبة قادة «سيليكون فالي» و سطوتة وكلمتة كانت تُحرك الرئيس التنفيذي لقوقل. قواعد بيل مهمة في الحياة عمومًا وتربية الأطفال. ربما لدينا في وسطنا الإبداعي نسخة بيل كامبل سعودية. لكنهم غير مرئيين. ويُفترض بهم ذلك. أزعم بأنه لو كان لدينا موقع «غلاسدور سعودي» سوف نقرأ مراجعات قيّمة حقيقية عن الشركات وتقييماتها.  لا زال أحد مشاريعي التي وضعتها في الدرج مؤقتًا.

لا شك أن تقييم فِرق العمل مهمة ليست سهلة، لكن إدارتها وضبطها يمكن أن يكون من خلال منهجيات عمل واضحة.  حصلت على شهادة منهجية الأهداف والنتائج الرئيسية OKRs و قرأت كتاب «قم بقياس المهم»  وأجد أنها أفضل منهجية عمل ليس لتقييم ومطاردة موظفيك، بل أداة سهلة لمتابعة تقدم المشاريع وإنجازها

وكما علينا أن ندرك بأن «الشركات الناشئة» تنمو بشكل مذهل يستحيل معه تطبيق قواعد عمل واضحة، حتى في الوصف الوظيفي لكثير من الموظفين تجد الوصف مختلف تمامًا عن العمل «أو مجموعة الأعمال» التي يقوم بها في الشركة. وهذا يعود بنا إلى أن المعضلة عامة وشائعة في السوق. والسبيل إلى إصلاحها هو «بناء سلسلة الإجراءات والتشريعات» ويندرج تحتها سياسات وأنظمة تنظم عمل الشركة داخليًا، مثل:

  • الحوكمة: لا حاجة لمجلس إدارة كبير أو لجان معقدة؛ يكفي اتفاق مكتوب بين المؤسسين يوضح الأدوار والصلاحيات وآلية اتخاذ القرار. من يملك ماذا؟ من يقرر ماذا؟ كيف تُحل الخلافات؟ ماذا لو خرج أحدهم؟ 

  • التمويل: بما أن الشركة الأم توفر الدعم أو تم توفيره من المؤسسين أو بعت سيارتك، لا تحتاج إلى إعداد ميزانيات ضخمة منذ البداية. يكفي تقارير تشغيلية داخلية.

  • التشريعات القانونية: معظم العقود «توظيف، موردين، عملاء» يمكن أن تصدر باسم الشركة الأم أو بنسخ مبسطة «ملفات إكسل بسيطة وتعوذ من أبليس»

كما أن بنائها من اليوم الأول أعتقد أنه «خطأ استراتيجي»، في البداية أجعل الأمور مرنة قدر الإمكان، لسببين:

  1. فريق عملك ما زال صغير جدًا، لا تقيّدهم بقواعد و حوكمة. فكر في المنتج فقط.

  2. الشركات الناشئة تحتاج للمرونة؛ إذا وضعت الحكومة من أول يوم. أنت تقتل نمو الشركة.

مطاردة فريق عمل الشركة الناشئة بالسياسات والتقييم من اليوم الأول، هو «إفساد مُنظم و متعمد لقتل الشركة»، منذ البداية لا تكتب لوائح مطولة، اعمل وثائق قصيرة قابلة للتعديل «مستندات قوقل كمثال» استعن بخدمات خارجية «محاسب، مستشار قانوني» بدل التوظيف المبكر. اجعل كل مرحلة مرنة وتكبر مع حجم الشركة. بمعنى أن التوسع لا يبدأ إلا إذا فعلاً أصبح لديك موظفين.

وعلى ذكر «لعنات التقييم» أذكر نصًّا جميلًا لشيخنا علي الطنطاوي رحمة الله، عن رأي الناس في عملك يقول:

«إن كثيرين من الكُتّاب يميلون إلى معرفة آراء الناس بكتاباتهم ويهتمون بهذه الآراء جدًا، حتى إنها لتشجعهم إذا كانت حسنة، وتُذهب عزائمهم إذا كانت سيئة، وهؤلاء الكُتَّاب يخسرون كثيرًا من مواهبهم، وينحطون عن المنزلة التي وضعهم فيها الله، يوم جعلهم كُتّابًا واختارهم لتبليغ رسالة القرون الآتية، فلا تعتادوا هذه العادة، ولا تبالوا بأذواق الناس إذا خالفت أذواقكم، ولكن استمعوا إلى نقدهم إذا كان يستند إلى أساس علمي صحيح، أما إذا استند إلى الذوق وحده فلا.. ولو كان ذوق أستاذكم … فِكَر ومباحث ص146.»

تذكروا قاعدتنا الراسخة في التقييم: ما يقيّم سفاح إلا سفاح. المسألة لا تحتاج إلى حوكمة أو مؤامة فقط تحتاج صملة مثل صملة سفاح.


وصلني هذا السؤال في إكس في الخاص من أحد الزملاء في الشركات الإبداعية، تضرر نفسيًا من التقييم السنوي و أحبت أن تكون الإجابة عامة وشاملة للجميع.

قوموا لصلاتكم يرحمكم الله


سفر عياد
سفر عياد
- نشرة بريدية كل خميس

مدونة شخصية و نشرة بريدية ، تدور حول «التقنية، الاقتصاد الرقمي، والمحتوى»